ولد الهدى فالكائنات ضياء ..
شمائل خاتم الأنبياء في كتابات الأدباء
كان قرآنا يمشي على الأرض .. هكذا وصفت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها خلقه صلى الله عليه وسلم ، في إيجاز بليغ ..
ماذا يمكن أن يقول القلم في شخصية الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم .. الإنسان الكامل ، الذي اصطفاه المولى تبارك وتعالى لتبليغ كلمة السماء الأخيرة للعالمين . هل يبلغ قلم المحرر المتواضع قامته السامقة .. إن الشخصيات العظيمة لا يصفها إلا الأقلام العظيمة .. وهذه جوله في رحاب أقلام سطرت كلمات في الرسول الهادي ، سيظل يحفظها سجل الزمان على مر الأيام .
شريف علام
المسجد النبوي الشريف
الإشراق الإلهي
ونبدأ جولتنا مع أمير البيان العربي ، الأديب مصطفى صادق الرافعي ، رحمه الله ، الذي كتب في كتابه " وحي القلم " ، تحت عنوان " الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام" ، يقول :
"كما تطلع الشمس بأنوارها فتفجر ينبوع الضوء المسمى النهار ، يولد النبي فيوجد في الإنسانية ينبوع النور المسمى بالدين . وليس النهار إلا يقظة الحياة تحقق أعمالها ، وليس الدين إلا يقظة النفس تحقق فضائلها .
والشمس خلقها الله حاملة طابعه الإلهي ، في عملها للمادة تحول به وتغير ، والنبي يرسله الله حاملا مثل ذلك الطابع في عمله تترقى فيه وتسمو .
ورعشات الضوء من الشمس هي قصة الهداية للكون في كلام من النور ، وأشعة الوحي في النبي هي قصة الهداية لإنسان الكون في نور من الكلام .
والعامل الإلهي العظيم يعمل في نظام النفس والأرض بأداتين متشابهتين :
أجرام النور من الشموس والكواكب ، وأجرام العقل من الرسل والأنبياء . فليس النبي إنسانا من العظماء يقرأ تاريخه بالفكر معه المنطق ، ومع المنطق الشك ، ثم يدرس بكل ذلك على أصول الطبيعة البشرية العامة ، ولكنه إنسان نجمي يقرأ بمثل "التلسكوب" في الدقة ، معه العلم ، ومع العلم الإيمان ، ثم يدرس بكل ذلك على أصول طبيعته النورانية وحدها .
والحياة تنشيء علم التاريخ ، ولكن هذه الطريقة في درس الأنبياء (صلوات الله عليهم) ، تجعل التاريخ هو ينشيء علم الحياه ، فإنما النبي إشراق إلهي على الإنسانية ، يقومها في فلكها الأخلاقي ، ويجذبها إلى الكمال في نظام هو بعينه صورة لقانون الجاذبية في الكواكب .
ويجيء النبي فتجيء الحقيقة الإلهية معه في مثل بلاغة الفن البياني ، لتكون أقوى أثرا ، وأيسر فهما ، وأبدع تمثيلا ، وليس عليها خلاف من الحس . وهذا هو الأسلوب الذي يجعل إنسانا واحدا فن الناس جميعا ، كما تكون البلاغة فن لغة بأكملها ، هو الشخص المفسر إذا تعسف (أي تكلف) الناس الحياة لا يدرون أين يؤمون منها ، ولا كيف يهتدون فيها ، فتطرب الملايين من البشرية اضطرابها فيما تنقبض عنه وتتهالك فيه من أطماع الدنيا ، ثم يخلق رجل واحد ليكون هو التفسير لما مضى وما يأتي ، فتظهر به حقائق الآداب العالية في قالب من الإنسان العامل المرئي ، أبلغ مما تظهر في قصة متكلمة مروية .
وما الشهادة للنبوة إلا أن تكون نفس النبي أبلغ نفوس قومه ، حتى لهو في طباعه وشمائله طبيعه قائمة وحدها ، كأنها الوضع النفساني الدقيق الذي ينصب لتصحيح الوضع المغلوط للبشرية في عالم المادة وتنازع البقاء . وكأن الحقيقة السامية في هذا النبي تنادي الناس : أن قابلوا على هذا الأصل وصححوا ما اعترى أنفسكم من غلط الحياة وتحريف الإنسانية .
ومن ثم فنبي البشرية كلها من بعث بالدين أعمالا مفصلة على النفس أدق تفصيل وأوفاه بمصلحتها ، فهو يعطي الحياة في كل عصر عقلها العملي الثابت المستقر تنظم به أحوال النفس على ميزة وبصيرة ، ويدع للحياة عقلها العلمي المتجدد المتغير تنظم به أحوال الطبيعة على قصد وهوى ، وهذه هي حقيقة الإسلام في أخص معانيه ، ولا يغني عنه في ذلك دين آخر ، ولا يؤدي تأديته في هذه الحاجة أدب ولا علم ولا فلسفة ، كأنما هو نبع في الأرض لمعاني النور ، بإزاء الشمس نبع النور في السماء .
وكل ذلك تراه في نفس محمد صلى الله عليه وسلم ، فهي
في مجموعها أبلغ الأنفس قاطبة ، لا يمكن أن تعرف الأرض أكمل منها ، ولو جمعت فضائل الحكماء والفلاسفة والمتألهين وجعلت في نصاب واحد - ما بلغت أن يجيء منها مثل نفسه صلى الله عليه وسلم . ولكأنما خرجت هذه النفس من صيغة كصيغة الدرة في محارتها ، أو تركيب كتركيب الماس في منجمه ، أو صفة الذهب في عرقه وهي النفس الإجتماعية الكبرى ، من أين تدبرتها رأيتها على الإنسانية كالشمس في الأفق الأعلى تنبسط وتضحي ، وتلك هي الشهادة له صلى الله عليه وسلم بأنه خاتم الأنبياء ، وأن دينه هو دين الإنسانية الأخير ، فهذا الدين في مجموعة إن هو إلا صورة تلك النفس العظيمة في مجموعها : صلابته بمقدار الحق الإنساني الثابت لا بمقدار الإنسان المتغير الذي يكون عند السبب جبلا ،
صلدا يشمخ ، وعند سبب آخر ماء عذبا يجري .
وهو دين يعلو بالقوة ويدعو إليها ، ويريد إخضاع الدنيا وحكم العالم ، ويستفرغ همه في ذلك ، لا لإعزاز الأقوى وإذلال الأضعف ، ولكن للإرتفاع بالأضعف إلى الأقوى ، وفرق بين شريعته وشرائع القوة ، أن هذه إنما هي قوة سيادة الطبيعة وتحكمها ، أما هو فقوة سيادة الفضيلة وتغلبها ، وتلك تعمل للتفريق ، وهو يعمل للمساواة ، وسيادة الطبيعة وعملها للتفريق هما أساس العبودية ، وغلبة الفضيلة للمساواة هما أعظم وسائل الحرية "
مصطفى صادق الرافعي
الإنسانية العليا
وتحت عنوان " الإنسانية العليا" يقول الرافعي :
من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، ليست له راحة ، طويل السكت ، لا يتكلم في غير حاجة ، ليس بالجافي ولا المهين ، يعظم النعمة وإن دقت لا يذم منها شيئا ، ولا تغضبه الدنيا ولا ماكان لها ، فإذا تعدى الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له ، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها ، وكان خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، من رآه بديهة هابه ، ومن خلطه معرفة أحبه ، لا يحسب جلسه أن أحدا أكرم عليه منه ، ولا يطوي عن أحد من الناس بشره ، قد وسع الناس بسطه وخلقه ، فصار لهم أبا ، وصاروا عنده في الحق سواء ، يحسن الحسن ويقويه ، ويقبح القبيح ويوهيه ، معتدل الأمر غير مختلف ، وكان أشد الناس حياء ، لا يؤيس راجيه ، ولا يخيب عافيه ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول ، أجود الناس بالخير .
وتعليقا على هذا الكلام العذب يقول الأستاذ "سعد كريم الفقي" محقق كتاب وحي القلم : " مما لا شك فيه أن أبرز صفة في حياته صلى الله عليه وسلم هي "النبوة" والنبوة هي من المعاني الغيبية التي لا تخضع لمقايسنا المحسوسة وإذا فإن معنى المعجزة الخارقة قائم في أصل كيانه عليه الصلاة والسلام فبجانب ذكائه صلى الله عليه وسلم وفطنته وعبقريته وشجاعته وسياسته للأمور توجد صفة النبوة وهي أهم الصفات وأشرفها" .
ثم يقول الرافعي : " صلى الله وسلم على صاحب هذه الصفات التي لا يجد الكمال الإنساني مذهبا عنها ولا عن شيء منها ، ولا يجد النقص البشري مساغا إليها ولا إلى شيء منها ، ففيها المعنى التام للإنسانية ، كما أن فيها المعنى التام للحق ، ومن اجتماع هذين يكون فيها المعنى التام للإيمان .
هي صفات إنسانها العظيم ، وقد اجتمعن له لتأخذ عنه الحياة إنسانيتها العالية ، فهي بذلك من برهانات نبوته ورسالته .
ولو جمعت كل أوصافه صلى الله عليه وسلم ، ونظمتها بعضها إلى بعض واعتبرتها بأسرارها العلمية - لرأيت منها كونا معنويا دقيقا قائما بهذا الإنسان الأعظم ، كما يقوم هذا الكون الكبير بسننه وأصول الحكمة فيه ، ولأيقنت أن هذا النبي الكريم إن هو إلا معجم نفسي حي ألفته الحكمة الإلهية بعلم من علمها ، وقوة من قوتها ، لتتخرج به الأمة التي تبدع العالم إبداعا جديدا ، وتنشئه النشأة المحفوظة له في أطوار كماله " .
النبي وخوارق العادات
وحول حياة الرسول الخاصة والعامة ، يقول العلامة الشيخ محمد الغزالي ، رحمة الله ، في كتابه " فقه السيرة" ، تحت عنوان "النبي وخوارق العادات" :
"جرت حياة الرسول عليه الصلاة والسلام - الخاصة والعامة - على قوانين الكون المعتادة ، فلم تخرج - في جملتها - عن هذه السنن القائمة الدائمة .
هو - من حيث إنه بشر - يجوع ويشبع ، ويصح ويمرض ، ويتعب ويستريح ويحزن ويسر ، ولكن الناس أنفسهم ، في هذه النواحي ، صنوف تجمعها قاعدة عامة ، منهم المتهالك على ضروراته ، فلو نقص حظه منها قليلا طاش لبه وخارت قواه . ومنهم الجلد الصبار يجزئه النزر اليسير ، ويمضي لغايته رافع الرأس موطد العزم .
إن الآلات التي تدار بالزيوت تتفاوت : منها الرديء الذي يستهلك أثقال الوقود ولا يجدي فتيلا . ومنها الجيد الذي يروع إنتاجه على قلة إمداده .
والبشر كذلك مع أبدانهم وضروراتها ومرفهاتها ..
والمطالع لسيرة محمد بن عبد الله يرى من طبيعة حياته الخاصة صلابة المعدن الذي صبغ منه بدنه صياغة أعجزت العمالقة ، وامكنت صاحبه من أن يحمل أعباء الحياة مشاق الجهاد ، ولأواء العيش ، وهو منتصب مقدام .
نعم . هناك من العباقرة عمي وصم وممعودون ومصدورون . غير أن العبقرية شأن دون النبوة ، ومن تمام نعمة الله على امريء ما أن يرزق العافية من الأدواء كلها لتتم بهذه العافية السابغة العناصر التي تصحح نظرته إلى الحياة ومسلكه فيها .
وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم - من هذه الناحية - بشرا كاملا . وكانت حياته متسقة مع سنن الله الكونية في البطولات الممتازة .
أما حياته العامة - رسولا يبلغ عن الله ويربي المؤمنين ، ويقاوم الكافرين ، ويدأب على نشر دعوته حتى تؤتي ثمارها في الآفاق - فلا شك أن القرآن العزيز هو مهادها وبناؤها" .
درس في الإنصاف
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته فقال : " من كنت جلدت له ظهرا .. فهذا ظهري فليستقد منه . ومن كنت شتمت له عرضا .. فهذا عرضي فليستقد منه . ومن كنت أخذت له مالا .. فهذا مالي فليستقد منه .
ألا إن الشحناء ليست من طبيعتي . ولا من شأني . ألا وإن أحبكم إلى : من أخذ حقا كان له .. أو حللني .. فلقيت الله وأنا طيب النفس .
وفي تعليقه على هذا الموقف ، كتب الدكتور محمود محمد عمارة (جامعة الأزهر) في مقال له بمجلة الأزهر ، تحت عنوان " درس في الإنصاف"
يقول :
" إن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي آخر عهده بالحياه يوزع تركته ، وتركته كإخوته من الأنبياء ليست دينارا ولا درهما .. وإنما هي القيم التي يمكن لها في القلوب حتى في اللحظة التي يشغل فيها الإنسان بنفسه .. وهو يجود بآخر أنفاسها .
وحين تختلط المباديء بالمصالح .. وتتشابك الأفكار مع العواطف .. فإنه صلى الله عليه سلم يحرر المباديء مما علق بها من أهواء البشر .
وإذا كان أصحاب المنافع يدورون معها حيث دارت .. ولو على أشلاء الضحايا .. فإن أرباب المباديء .. يكونون حيث تكون القيم .. وإن لم تتحقق لهم مصلحة فردية . .
ولكن .. متى جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهرا ، أو شتم عرضا أو أخذا مالا ؟
لقد كان هو الذي حمى الظهور من عدوان جلاديها .. فاستقامت .. وارتفعت الهامات اعتزازا بدين الله عز وجل ، ثم هو النبي العربي الذي اختصت لغته بمعنى " العرض" الذي لا نظير له في أية لغة من لغات الدنيا والتي خلت من هذا المعنى .. فلم تحفل به ولم تصنه ؟
وفيما يتعلق بالمال .. فنحن نقول : هل كان صلى الله عليه وسلم يأخذ .. أم كان يعطي ؟
طيران في أجواء الإيمان
الشهادة الكبرى
يقول تعالى في سورة القلم ( الآية : 4) في وصف أخلاق الرسول : " وإنك لعلى خلق عظيم " .. وفي تعليقه على هذه الآيه وما تحمله من معاني جليلة ، كتب المفكر والأديب "سيد قطب" ، رحمه الله ، في كتابه " في ظلال القرآن" يقول :
ثم تجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم :
"وإنك لعلى خلق عظيم" .. وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي الكريم ، ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود! ويعجز كل قلم ، ويعجز كل تصور ، عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود ، وهي شهادة من الله ، في ميزان الله ، لعبد الله ، يقول له فيها : " وإنك لعلى خلق عظيم" . ومدلول الخلق العظيم هو ما هو عند الله مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين !
ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد - صلى الله عليه وسلم - تبرز من نواحي شتى :
تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعال ، يسجلها ضمير الكون ، وتثبت في كيانه ، وتتردد في الملاء الأعلى إلى ما شاء الله .
وتبرز من جانب آخر ، من جانب إطاقة محمد - صلى الله عليه وسلم - لتلقيها . وهو يعلم من ربه هذا ، قائل هذه الكلمة . ما هو ؟ ما عظمته ؟ ما دلالة كلماته ؟ ما مداها ؟ ما صداها ؟ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة ، التي يدرك هو منها ما لا يدركه أحد من العالمين .
إن إطاقة محمد - صلى الله عليه وسلم - لتلقي هذه الكلمة ، من هذا المصدر ، وهو ثابت ، لا ينسحق تحت ضغطها الهائل - ولو أنها ثناء - ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب .. تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن .. هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل .
ولقد روي عن عظمة خلقه في السيرة ، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة . وكان واقع السيرة أعظم شهادة من كل ما روي عنه . ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر . أعظم بصدورها من العلي الكبير ، وأعظم بتلقي محمد لها وهو يعلم من هو العلي الكبير ، وبقائه بعدها ثابتا راسخا مطمئنا . لا يتكبر على العباد ، ولا ينتفخ ، ولا يتعاظم ، وهو الذي سمع ما سمع من العلي الكبير !
والله أعلم حيث يجعل رسالته . وما كان إلا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعظمة نفسه هذه - من يحمل هذه الرسالة الأخيرة بكل عظمتها الكونية الكبرى . فيكون كفئا لها ، كما يكون صورة حية منها .
إن هذه الرسالة من الكمال والجمال ، والعظمة والشمول ، والصدق والحق ، بحث لا يتحملها إلا الرجل الذي يثني عليه الله هذا الثناء . فتطيق شخصيته كذلك تلقي هذا الثناء . في تماسك وفي توازن ، وفي طمأنينة . طمأنينة القلب الكبير الذي يسع حقيقة تلك الرسالة وحقيقة هذا الثناء العظيم . ثم يتلقى - بعد ذلك - عتاب ربه له ومؤاخذته إياه على بعض تصرفاته ، بذات التماسك وذات التوازن وذات الطمأنينة ويعلن هذه كما يعلن تلك ، لا يكتم من هذه شيئا ولا تلك .. وهو هو في كلتا الحالتين النبي الكريم . والعبد الطائع . والمبلغ الأمين .
إن حقيقة هذه النفس من حقيقة هذه الرسالة . وإن عظمة هذه النفس من عظمة هذه الرسالة . وإن الحقيقة المحمدية كالحقيقة الإسلامية لأبعد من مدى أي مجهر يملكه بشر . وقصارى ما يملكه راصد لعظمة هذه الحقيقة المزدوجة أن يراها ولا يحدد مداها . وأن يشير إلى مسارها الكوني دون أن يحدد هذا المسار !
ومرة أخرى أجد نفسي مشدودا للوقوف إلى جوار الدلالة الضخمة لتلقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذه الكلمة من ربه ، وهو ثابت راسخ متوازن مطمئن الكيان .. لقد كان - وهو البشر - يثني على أحد الصحابة ، فيهتز كيان صاحبه هذا وأصحابه من وقع هذا الثناء العظيم . وهو بشر وصاحبه يعلم أنه بشر .
وأصحابه يدركون أنه بشر . إنه نبي نعم . ولكن في الدائرة المعلومة الحدود . دائرة البشرية ذات الحدود .. فأما هو فيتلقى هذه الكلمة من الله . وهو يعلم من هو الله . وهو بخاصة يعلم من هو الله ! هو يعلم منه ما لا يعلمه سواه . ثم يصطبر ويتماسك ويتلقى ويسير ... إنه فوق كل تصور وفوق كل تقدير !!!
إنه محمد - وحده - هو الذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة .. إنه محمد - وحده - هو الذي يبلغ قمة الكمال الإنساني المجانس لنفخة الله في الكيان الإنساني . إنه محمد - وحده - هو الذي يكافيء هذه الرسالة الكونية العالمية الإنسانية ، حتى لتتمثل في شخصه حية ، تمشي على الأرض في إهاب إنسان .. إنه محمد - وحده - الذي علم الله منه أنه أهل لهذا المقام . والله أعلم حيث يجعل رسالته - وأعلن في هذه أنه على خلق عظيم . وأعلن في الأخرى أنه - جل شأنه وتقدست ذاته وصفاته ، يصلي عليه هو وملائكته " إن الله وملائكته يصلون على النبي" . وهو - جل شأنه - وحده القادر على أن يهب عبدا من عباده ذلك الفضل العظيم .. " .
------------
- المصادر :
(1) مصطفى صادق الرافعي - وحي القلم .
(2) محمد الغزالي - فقه السيرة .
(3) مجلة الأزهر - مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف - عدد ربيع
الأول 1422هـ .